الحصاد الاسبوعي -لا شك في أن المنظومة التربوية التونسية وبعد مرور ما يناهز السنتين على هروب بن علي مازالت محكومة بنفس الآليات القديمة التي كانت بإشراف مستشار تربوي سابق في قصر الرئاسة بقرطاج حتى أنه كان هو الوزير الحقيقي للتربية والتعليم في تونس طيلة أكثر من 20 سنة في حين لم يكن الكثير من وزراء التربية سوى واجهة صورية تقتضيها البروتوكولات السياسية مما يجعلهم يلهثون وراء إرضاء سيدهم المستشار وتقديم قرابين الولاء والطاعة عبر تنفيذ الأوامر. وقد كان أقدرهم حفاظا على منصبه من يجد سبيلا إلى العائلة الحاكمة وسيدة تونس الأولى وخدمتها والوشاية لها وتقديم الهدايا والعطايا من أموال الدولة التونسية ومن عقاراتها. ولا يزال الجميع يتذكر المنحة التي قدمها أحدهم من ميزانية وزارة التربية وقدرها مليار وثمانمائة ألف دينار للسيدة الأولى هبة لها مقابل خدماتها الجليلة للتربية والتعليم ! ولكي تؤسس»مدرسة الجماهير والشعب الكريم» المعروفة بمدرسة قرطاج الدولية. يؤسفني وأنا أكتب هذا المقال أن أتذكر بأن من قام بمثل تلك الجرائم وهي كثيرة وقد رُفعت في حقه قضايا من قبل متضررين كثُر من السادة الأفاضل رجال التعليم ممن لحقهم الأذى المادي والمعنوي بالطرد التعسفي وهتك الأعراض لم يلق حسابه إلى اليوم، فالذي حدث ليس مجرد تحيل.. إنه سرقة موصوفة لأموال المجموعة الوطنية قُدمت هدية لعصابة بحماية قانونية. المؤسف أيضا أن تلك الرجالات التي لم تتعامل يوما مع المؤسسة التربوية إلا بوصفها ريعا للنهب ومزيدا من النهب لا يزال بعضها في مناصبه المتقدمة في الدوائر الاستشارية والمكلفين بالمأموريات في ديوان السيد وزير «الثورة».
وليعذرني السيد وزير التربية الذي أكن له كبير الاحترام ولكني كمتابع للشأن العام بما في ذلك التربوي منه لم أسمع ولم أر أي محاولة جادة لوضع النقاط على الحروف على طريق عملية مساءلة حقيقية تتعلق بمثل تلك الممارسات الشاذة والمنافية للأخلاق وما أكثرها من قبل تسليم أموال الشعب بغير وجه حق أو فتح ملفات الفساد ولا أظن أن وزارة التربية كانت خالية منه أو حتى تغيير طاقم الديوان بوصفه المسئول عن السياسات التربوية وبوصف بعضه جاء ضمن حكومات سابقة بعد الإطاحة ببن علي كانت امتدادا للنظام القديم ودائرة الولاءات والزبونيات التي كانت تحكمه.
لقد كانت تلك السياسات والولاءات والتسميات الفاقدة للكفاءة والمسؤولية والنظافة أحيانا وخضوع النظام السابق لاملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والدول الأوربية المانحة والقارضة وتنفيذ سياساتهم لاسيما في المجال التربوي قد أسس لانهيار نظام تربوي كثيرا ما تباهت به النخب الفكرية والسياسية ولكن القوى الشعبية والاجتماعية كانت ضحية له.ولذلك فإن الثورة التونسية لا يمكن لها أن تنجح إذا لم تقم بعملية تغيير جذري للمنظومة التربوية لتبديل قواعد الارتقاء الاجتماعي عبر رد الاعتبار وإصلاح المدرسة العمومية كمدرسة للشعب أولا وأخيرا أما النخب السياسية والمالية وأصحاب المال والأعمال بمن في ذلك وزراء العهد غير المأسوف عليه فإن أبناء الكثير منهم لم يجلسوا على مقاعد تلك المدرسة القديمة المتآكلة وبجانب حيطانها الخربة وأمام سبورتها الخشبية التقليدية. لقد جلسوا على المقاعد المرفهة لمدارس البعثات الفرنسية والانقليزية والأمريكية قبل أن يتموا دراساتهم في لندن وباريس وجنيف وواشنطن وبرلين. وقد يرى البعض في هذا الكلام نوعا من المبالغة ولكنه الحقيقة بأم عينها.
ماذا فعلت وزارة التربية لإنقاذ التربية في تونس بعد الترهل الذي أصابها و الذي سينتهي بها إلى تحمل مسؤولية انهيار التعليم العمومي في ظل المزايا الذي بدأ يتمتع به التعليم الخاص من الابتدائي إلى العالي وفي ظل الدروس الخصوصية المتفاقمة التي ستنتهي بالولي إلى نقل ابنه إلى التعليم الخاص بوصفه يدفع الأموال في كل الحالات. كان على وزارة التربية أن تتدخل لوضع حد لتلك الدروس الخصوصية المرهقة لجيب المواطن التونسي عبر توفير المرافقة الضرورية والدعم للتلاميذ الذين لهم صعوبات في التعلم وما أكثرهم وبالتوازي مع ذلك تشريع منظومة قانونية رادعة للابتزاز المالي الذي يتعرض له الأولياء.
لم تضع وزارة التربية والحكومة هذه المسألة ضمن أولوياتها لأنها لا تمتلك إستراتيجية حقيقية في تعاملها مع المسألة التربوية وغائياتها ويكاد يصدق على الحكومة الجديدة بأنها أداة سلطة وحكم وليست أداة تغيير جذري وإصلاح ضمن خطة وطنية حقيقية لبناء رأس مال بشري مفكر وقادر ومريد وفاعل على أرضية منظومة قيمية كنا افتقدناها في ظل النظام التربوي القديم وما أحوجنا إليها لإنتاج شعب يشعر بأن هذا البلد له وليس لغيره فيدافع عنه وكأنه يدافع عن بيته الخاص أو أرضه الخاصة أو عرض وشرف عائلته.
إن غياب الإستراتيجية التعليمية الوطنية وعدم وجود جدية في الإصلاح والتجديد والتغيير، والمحافظة على مهندسي المنظومة التربوية القديمة في مناصبهم، كل ذلك حول المنظومة التربوية إلى بركة آسنة لا تنمو فيها إلا الأعشاب الطفيلية المضرة. ولهذا السبب لم تبعث الوزارة إدارة للبرمجة بعد حلها في ظل حكم رجال النظام السابق وكأننا لا نحتاج تجديدا في منظومتنا التربوية في مستوى مناهج التدريس والمضامين البيداغوجية والوسائل التكنولوجية الحديثة التي تتطور بسرعة الضوء، حتى أن نظام الكفايات قد توقف في الابتدائي ولم يشمل الإعدادي والثانوي إلى يوم الناس هذا ولم يخضع لأي مراجعة. ولا يزال تدريس المواد العلمية في الابتدائي والإعدادي باللغة العربية لينتقل التلميذ إلى دراسة تلك المواد في التعليم الثانوي باللغة الفرنسية مما يؤدي إلى فقدان الكثير من التلاميذ القدرة على الفهم ونتيجته المباشرة الرسوب ومغادرة المدرسة لدى البعض الآخر وعدد هؤلاء ليس بالهين. هي جريمة حقيقية مورست ولا تزال في حق أبناء الطبقات الفقيرة المسحوقة خاصة لأنهم غير قادرين على تأمين تعليم خصوصي في الفرنسية وفي اللغات بصورة عامة التي تعتبر روح العملية التعليمية ككل. من سيتولى تقييم التعلمات والتمشي البيداغوجي ككل في ظل غياب إدارة متخصصة في وزارة التربية تتولى شأن التقييم الدوري لمكتسبات التلاميذ في كل مؤسسة تعليمية على حده وفي كل معتمدية وفي كل ولاية وبحسب المواد وحينها يقع توزيع رجال التعليم وفقا لتلك النقائص التي يرصدها من يتولى عملية التقييم بصفة دورية ويعالج الضعف في الفرنسية أو في الرياضيات أو في غير ذلك من المواد بتوفير الإطار التربوي الملائم ووضع خطة في الغرض خاصة في الأرياف وفي القرى والمدن الداخلية وأحزمة المدن الكبرى حيث لا تزال بعض المدارس و المعاهد تفتقد إلى مدرسين أو أن بعضها لم ينطلق أقسامه بعد في حين أن مدارس أخرى على وشك الدخول في الامتحانات الثلاثية الأولى.
هو الحيف الذي تعيشه المنظومة التربوية اليوم بسبب مركزية الإدارة التي تشل الإدارات المحلية والجهوية عن العمل. وهو غياب البرمجة والاستشراف الذي سيؤدي إلى انتداب 10 آلاف مرافق مدرسي وفني في الإعلامية بدون سابق تكوين. وهو التسيب الذي تعيشه المؤسسات التربوية في مستوى المدرسين والإداريين فيتمظهر في غيابات عشوائية على حساب الناشئة وتكوينهم الضروري دون رقيب مما يؤدي إلى الانحراف في أوساط التلاميذ حتى بلغنا الزمن الذي يُستهلك فيه الخمر و»الزطلة» في رحاب المدرسة والمعهد.وهو الانتدابات العشوائية في سن الأربعين والخمسين باعتماد المقياس الاجتماعي القائم على الأكبر سنا والأقدم شهادة والحال أن هذا الصنف سيضرّ المدرسة والمتعلم أكثر من أن ينفعه لأن كبره في السن لا يساعده على القيام بعمله بحيوية ولأن ما تعلمه قد نسيه أو قد تغير مع مرور الزمن ناهيك أن بعض المدرسين الذين تم انتدابهم وفق تلك المقاييس قد أظهروا عجزا في التدريس، والمتضرر الأكبر سيكون التلميذ ومن ثمة فإن المقاييس الاجتماعية بما في ذلك إرجاع المطرودين بعد عشرين سنة على طردهم من عملهم وجب أن يُستثنى منها المجال التربوي حماية له وحفاظا عليه أو أننا بهذه الطريقة نُدخل طبيب الصحة العمومية إلى غرفة العمليات فماذا ستكون النتيجة غير موت المريض.
الحيف شمل كذلك مديري مؤسسات التعليم الثانوي الذين وقع إعفاؤهم جميعا في زمن وزير التربية السابق بتعلة أنهم جميعا من بقايا النظام المخلوع وبتأثير من النقابات دون أن يشمل ذلك الإعفاء الإداريين في الديوان والإدارات العامة بالرغم من أن بعض مديري المعاهد لم يكن متورطا في الفساد وأظهر قدرة عالية على التسيير ونجاح مؤسسته، وقد كانت النتيجة هي استقالة 350 من المديرين الجدد لغياب الكفاءة الإدارية والقدرة على التصرف والتسيير والتقييم البيداغوجي في حده الأدنى كما تقتضيه شروط العملية التربوية الناجحة.
الواقع أن الجرائم التي تعيشها مؤسستنا التربوية والتي من بينها التأسيس لتعليم نخبوي يحمي الأكثر ذكاء والأقدر مالا ويضعه في صفوف نخبة المدارس والجامعات فيما بعد ويقصي أصحاب القدرات الذهنية والمالية المتواضعة ويدفع بهم إلى التسرب المدرسي وإلى الانحراف المبكر وقوارب الموت وحتى التطرف الديني والموت في جبهات القتال اعتقادا في أن ذلك السلوك أفضل دفاع عن الله وشريعته.
ومن بين هذه الجرائم التي تمارس اليوم في الحقل التربوي وتشترك فيها بعض النقابات مع سلطة الإشراف وحتى بعض الأحزاب السياسية الفاعلة في الحقل النقابي والتي لا تتمثل المصلحة الوطنية جيدا ولا تراها إلا من خلال مصلحتها الحزبية وبالتالي تسعى إلى نقلة مناضليها إلى العاصمة والمدن الكبرى لأسباب سياسية وانتخابية، هي عملية النقل العشوائية التي حولت المناطق الداخلية والنائية والفقيرة منها إلى مناطق عبور للأساتذة دون مراعاة لجودة العملية التعليمية مما حتّم على أبناء تلك الجهات التعلم على أيدي مدرسين في طور التربص في كثير من الأحيان هذا إن توفروا لأن الكثير من المدارس والمعاهد تعيش نقصا بسبب عدم التحاق المدرسين الجدد الذين تم انتدابهم لعوائق اجتماعية وعلى أمل نقلة تمت أو ستتم بسبب تدخل هذا المسئول آو ذاك فنحن لازلنا في زمن المحسوبية التي يشترك فيها كثيرا من رجال ونساء الطبقة السياسية الجديدة الحاكمة أو حتى المعارضة مما انجر عنه زيادة على النصاب في العاصمة والمدن الكبرى رافقه عدم توفر جدول أوقات للبعض ونقصان في ساعات التدريس بالنسبة للبعض الآخر والالتحاق بالعمل الإداري بالنسبة لفريق ثالث والضريبة تدفعها دائما المجموعة الوطنية والفئات المسحوقة والجهات المهمشة فهل تدق الثورة أبواب وزارة التربية؟
لا تنسو متابعتنا على الفايسبوك : https://web.facebook.com/educationtunisie/
لا تنسو متابعتنا على الفايسبوك : https://web.facebook.com/educationtunisie/
0 commentaires:
إرسال تعليق